عودة مبتعث

عودة مبتعث

June 29, 20164 min read

هاهو شريط ذاكرتي يعيديني لتلك الليلة من عام 2010 التي ودعت فيها أهلي مسافرة لبلد الابتعاث. كنت احاول وقتها ان اتماسك بكل ما اوتيت من قوة. لم اكن اتخيل انني سأكون بالقوة التي تجعلني أصمد وانا بعيدة عن اهلي لمدة لا اعلم مداها. كنت أعتبر نفسي بين اهلي مدللة, فكيف سأتدبر أمري وانا التي الجأ اليهم في كل صغيرة وكبيرة حتى بعد زواجي. وما زاد من همي وقلقي اننا سافرنا على حسابنا الخاص, وامر الالتحاق بالبعثة لم يكن مضمونا ابدا. فأيامنا المقبلة لم تكن واضحة المعالم بعد

شريط اربع سنوات يمر عليّ الان في غمضة عين, وكانما ما لبثت الا ساعة من نهار! أغمض عيني فاستشعر نسيم ذكرياتي التي تمر سريعا وكأنني ارى نفسي بتغيراتها التدريجة التي حصلت عليّ منذ ابتعاثي وحتى وصلت الى ما انا عليه الان. عند تذكري لتلك الايام, رغم ما اعتراها من صعوبات وتحديات نفسية وجسدية, لا اذكر منها الا السكينة والطمأنينة التي كنت فيها. لا اذكر الا ساعات الفرح التي انتشي بها والروح الايجابية التي كانت تعتريني

افتح عيني لاجد نفسي قد عدت وسط أهلي وأحبابي, وقد أكملت ماكنت اراه بعيد المنال. عشت فرحة عودتي, وفرحتي بوجودي بين احبابي, وفرحة اهلي بي وبنجاحي. لكن الامر لايقتصر على نشوة الفرح فقط, بل يتعداه الى ما كنت احسب انني قد هيأت نفسي له. الامر يحتاج الى اعادة برمجة للتأقلم مع اسلوب الحياة هنا!!وكأنني أسمع منكم من يقول:”سلامات, ولا كأنك كنت عايشة هنا طول عمرك!!!” نعم, قد عشت هنا, بينكم ووسطكم, ثمانٍ وعشرون سنة. ولعلي كنت امارس اموراً انتقدها الان, واتقبل اموراً لم اعد اتقبلها الان, واضحك على امورٍ ازدريها الان. فلم هذا التغير؟ ولم هذا الاستنكار؟ ففي هذا المقال أحاول فقط تفسير وتبرير (حسب تجربتي الشخصية) ظاهرة استنكار المبتعث للنمط المعيشي هنا بعذ عودته رغم انه عاش وسطه سنين طويلة قبل ابتعاثه

في الثالث من رمضان الحالي لعام 1436 هـ – 2016 م, أكملت عامي الاول منذ عودتي من بلد الابتعاث. قد كنت قبل عودتي احاول تهيئة نفسي بأن الامر هنا مختلف. فهي احدى ثلاث احتمالات: اما أن أتنازل عن جلّ ما سعيت له لتغيير نفسي في تلك الفترة, وانغمس انغماسا تاما في المجتمع بكل احواله. أو أن أسعى بكل جهدي أن احافظ على ما انا عليه وذلك يعني انعزالي الشبة تام عن المجتمع المحيط بي. أو أن اجد طريقة اتأقلم بالانخراط بالمجتمع بالحد الذي يسمح لي ان اتعايش معه دون أن افقد سيطرتي في ترتيب اولياتي. كنت اخطط لكتابة المقال في الايام الاولى من عودتي للسعودية. لكن لم احبذ أن اكتب وانا في اوج الصدمة الحضارية التي كنت عليها ووجدت من الأسلم أن أتروى حتى ارى الصورة بمنظور اوضح

المبتعث ما هو الا فرد من المجتمع قد حباه الله بفرصة يوسع فيها مدراكه ويستقي من خبرات وتجارب ربما لم تُتاح لغيره. وُلد وتربى في نفس المجتمع ومارس جميع ما كان يمارسه افراد المجتمع دون أن يعي اي مشكلة في هذه الممارسات. فكيف يرى المشكلة ولا احد يرى انها مشكلة اساسا؟ وحتى وان تذمروا منها, فهذه الممارسات تُعتبر من طبيعة المجتمع والمفروض, حسب اعتقادهم, ان نتكيف معها ونسايرها. حالة الاستنكار التي تصيب المبتعث بعد عودته لم تنتج الا من استشعاره صفاء العيش الانساني الذي عاشه في بلد الغربة. عرف كيف يعيش حياته هو, لا حياة غيره بترتيب اولوياته بما يتناسب مع احتياجاته دون ضغوط اجتماعية

الإنسان بطبيعة الحال لايُعرف الاّ في الازمات والمواقف الصعبه, حتى ان هو ذاته لا يعرف حقيقة نفسه الا في تلك المواقف. فجميعنا نتحلى بالصدق والنزاهة والامانة وجميع الشمائل النبيلة في الظروف المثالية, لكن هل سنكون بنفس المثالية في الظروف الغير مثالية؟. “لا يجوز لأنسان أن يدّعي العفة ما لم يتعرّض للفتن” (د. غازي القصيبي – حياة في الإدارة). فالغربة تتيح لك أن تضع مسلماتك تحت عدسة المجهر, تراقب بها افكارك وردود افعالك, وتتساءل عن تنقاضاتك التي لم تفكر فيها يوماً. تتيح لك ان تتنحى جانباً وترى حياتك من زاوية اوسع, بمشهد كامل. وقتها ستكون الفرصة الامثل لمراجعة مبادئك وقيمك لتروض نفسك على أن تكون افعالك في اطار مبادئك سواء في الشدة او اللين بغض النظر عن  الظروف التي حولك

في الغربة, وصلت للسلام الداخلي النابع من رضى نفسي عن القرارات التي اتخدها بناء على مبادئ احملها وحتى وإن كانت صعبة في حينها. ومما ساعدني بشكل كبير ان المجتمع الغربي يحترم ويحفظ حقوق الافراد بجميع اطيافهم واختلافاتهم. فمارست ما تمليه عليّ مبادئي بكل اريحية بدون اي ضغوط خارجية. ولكن الصدمة عندما اصطدمت في واقع مجتمعنا الذي عدت عليه بعد ان بنيت اساساً _اسأل الله ان يكون متينا_ من المبادئ والقيم, ووجدت ان اكثره يخالف سير المجتمع الذي لا يتقبّل الإختلاف. فأصبحت وقتها مزعزعة ما بين ما تمليه عليه نفسي و ما يمليه علي المجتمع

منذ عودتي الى الأن مررت بمواقف عصيبة, اصبت في التعامل مع بعضها واخطأت في البعض الاخر. وفي كل مرة اراجع نفسي لتكون درساً لما سيواجهني في المرات المقبلة. غايتي ان اتعايش مع المجتمع بدون ان افقد نفسي, وأن اعيش مبادئي دون ان صطدام مع من حولي, وان اعيد السلام الداخلي الذي فقدته

اراكم على خير

Back to Blog