
إحساس فاخر على الآخر
في خضّم زحمة الحياة, وتسارع الأيام, أجد أنه لا مفر لي من الركض لأُسابق الزمن وأُلاحق مسؤولياتٍ على عاتقي قد تنامت وتشعبت حتى أثقلتْ مني المسير، وكلما حططُتُ رحالي لألتقط أنفاسي قسى عليّ صوت الضمير. فكان لا بد لي من وقت مستَقْطَعْ أُجمّدُ فيه الأيام، وأَعيشُ عزلةً في سلام، أضع فيها الرجل على الأخرى، وأرتشف رشفة من الروقان. لا حساب عندي وقتها للزمان ولا المكان، ولا حتى لتبعات الأعمال. ولكن هيهات.. انّى لي ذلك، وكل شئٍ عندي بمقدار
وما بين تلك الآمال والتأملات، أُتيحتْ لي فرصة في باطنها الرحمة ومن ظاهرها عذاب. أسبوعين من العزلة في أقاصي البلاد لتحقيق أهداف خاصة في الجانب العملي. وبعد الاستشارة والاستخارة، توكلت على الله وقبلت خوض التجربة وسافرت.. سافرت وحيدة، بجوازي وجهازي وحقيبة! رغم انه في سابق أسفاري لم تكفيني يوماً حقيبة. يومها، أمنّتُ ذريتي عند أبٍ مُحَبّ، وأمنّتُ نفسي عند قيادي مُؤتَمن، واستودعتُ ذلك كله عند مليكٍ مقتدر
هبطتُ في الأرض الموعودة، ومنذ اللحظات الأولى دغدغت روح البلاد إحساسي. لم يبهرني جمال المسكن الذي جُهِّز لنا، ولا مذاق المأكل الذي رُتب لنا، ولا حتى الرفاهية التي وفرت لنا، بالرغم من ذلك يظل سعيهم بالطبع مقدراً ومشكورا. لكنني كنتُ فعلياً مفتونة بالعكس، فقد رأيتُ في ضيم الشوارع سحر، وفي بساطة الناس درس. ورغم ان رحلتي كانت لأغراض عملية بحته، إلا أنني كنت ارتجي ان أجد فيها تحقيقاً لغايتي وملاذاً لعزلتي. لكن الشيء الذي لم أتوقعه أبداً هو أن يمتد الأثر على الصعيد الروحي الذي جعلني في حالة نشوة متدفقة لا أستطيع تفسير فحواها
خلال رحلتي وجدت نفسي وكأني علي بابا وقد فُتحت لي كنوز من المعرفة والفائدة لأستقي منها ما أشاء. للأسف تظل طاقة عقلي محدودة ووقتي محدد ومحسوب، فكان عليّ أن أنتقي وأتخيّر لأجني ما خفَّ وزنه وثقُل اثره. خلال الأسبوعين التي قضيتها في رحلتي، سُخرت لي أموراً اعتقدُ انه من شبه المحال ان تتكرر مجتمعة كما اجتمعت لي وقتها. فقد ظلّلنا الحس الأبوي الذي كفانا همّ التفكير في أيّ همّ، وسمى بنا الفكر التربوي الذي أغدق علينا من خبرات السنين، ورافقتنا الروح المرحة التي خففت عنّا وطأة الإغتراب. عوضاً عن هذا وذاك، فقد تيسرت لي بتدابير إلاهية ان التقي بالنصف الأخر من عائلة بالخير التي إستوطنت منذ عشرات السنين في بقاع هذه الأرض واختلفوا عنّا في الثقافة واللغة وفي قليل من الحظ. ولكن، ويا سبحان الله، يظل رابط الدم أعمق وأقوى من أيّ اعتبارات أخرى. إحساس غريب في أن تُحَبَّ قبل أن تُرى، وأن يُشتاقَ للقائك قبل أن تُعرف، وأن يُغرم بك، وتُحضن كفيك، فقط لأنك من سلالة أبيك. إحساس غريب يجعلني أتلعثم وأنا أصف مشاعري بلغة وسيطة فيما بيننا
رحلتي للهند قد حققت لي أهدافها العملية، وأهدت لي هباتها الروحية.. رحلتي للهند كانت زاخرة بالمشاعر, كانت باختصار كما قال الشاعر إحساس فاخر عالاخر